أنا وأمين الرجوي ... قراءة في جدلية علاقتي بالشهيد المغدور (الجزء الاول)

قرأت في سيرة الشهيد الراحل أنه من مواليد عام 1963م، مديرية جبلة، محافظة إب... بعد عام واحد من قيام ثورة الـ26 من سبتمبر 1962م... أي أن الشهيد من مواليد العهد الجمهوري الجديد.
على العكس من ذلك، فأنا من مواليدعام 1961م، في مديرية القبيطة، محافظة تعز في حينها...قبل عام واحد من قيام ثورة الـ26 من سبتمبر م1962.. أي أنني من مواليد العهد الملكي المظلم.
الفارق في العمر هو ثلاث سنوات بالتحديد... سنة الثورة..وسنة قبلها..وسنة بعدها؛ وبالتالي تصبح علاقتي بالشهيد بحكم هذا الفارق هي علاقة زمالة، لا علاقة استاذية كما يبدو للبعض، وإذا كان الشهيد المغدور قد تعامل معي كأستاذ له في بعض الأوقات، وفي بعض الشئون، فهو تعامل أدبي ومنحة منه، وتكرما علي؛ بحكم أخلاقه الكريمة التي عرف بها.

 

نقاط في جدلية العلاقة
بموجب هذا الفارق في السن، يكون الشهيد المغدور قد تخرج من الإعدادية العامة في عام 1981م في مدينة جبلة، محافظة إب، ليتجه بعدها إلى الجند في محافظة تعز قادما من إب، ملتحقاً بمعهد الجند لدراسة المرحلة الثانوية في عام 1982م... أما أنا فقد كنت تخرجت في هذا العام أي 1981م من الثانوية العامة في مدينة تعز؛ ومن ثم التحقت بخدمة الدفاع الوطني لأتجه على العكس من الرجل إلى محافظة إب، قادما من تعز مروراً بمركز الدفاع الوطني في صنعاء، لأداء الخدمة العسكرية في محافظة إب.
وصلت إلى إب عام 1982م، وكنتلا أعرف الأستاذ أمين الرجوي، ولم أتعرف عليه من الغير، ولم يكن هو موجود أصلاً في إب في حينها... وفي الاتجاه نفسه، كان الشهيد قد وصل إلى تعز عام 1982م ولم يكن يعرفني، ولم أكن حينها موجود في تعز.
الشهيد الراحل أكمل دراسته الثانوية، وعاد ليستكمل دراسته الجامعية في تعز ويستقر فيها... أما أنا فقد أكملت خدمة الدفاع الوطني، واستقريت في مدينة إب مواصلاً دراستي الجامعية في كلية الشريعة والقانون في جامعة صنعاء عن بعد.

الشهيد الراحل تزوج بعد إتمام الدراسة الثانوية وأثناء الدراسة الجامعية... وقبل أن يكمل الشهيد دراسته الجامعية بعام واحد، كان يتنقل بين مدينة تعز ومديرية القبيطة التابعة لمحافظة تعز، ويبدو أنه كان يمارس مهامه التنظيمية في إطار الحركة الإسلامية في حينها في نطاق مديرية القبيطة التي كانت هي مديريتي ومسقط راسي... أما أنا فكنت أتنقل أيضا بين مدينة إب ومحيطها، ومدينة جبلة التي هي مسقط رأس الشهيد... وفي هذه الفترة أي في مطلع عام 1987م، قررت الدخول في الزواج فتوجهت إلى مسقط رأسي في القبيطة؛ بهدف استكمال هذه المهمة، وفعلاً تمكنت من استكمالها، وأقمت حفل العرس، وكان الوالد الشيخ عبدالعزيز الحبيشي على رأس ضيوفي القادمين من محافظة إب، يرافقه مجموعة من الأخوة الأكارم، أتذكر منهم على سبيل المثال: الأستاذ إسماعيل غانم، والأستاذ عبدالله شرف، والأستاذ عباس النهاري، والشيخ عبده عبدالله الحميدي، والأستاذ محمد زين العودي،والأستاذ عبدالفتاح البتول، والأستاذ محمد الشامي، والدكتور فؤاد عبد الحاج البعداني، والأستاذ عبدالحكيم مقبل مدير الثقافة كما أظن وأيضاً والأستاذ يحيى الفلاحي رئيس المجلس المحلي، والأستاذ عبد الملك علامة وكيل الجهاز المركزي للثقافة في صنعاء وهو من أقارب الشيخ عبدالعزيز الحبيشيوغيرهم الكثير... أما الأستاذ الشهيد أمين الرجوي فقد كان ممن حضروا هذا العرس، ولكن ليس باعتباره من الضيوف القادمين من إب، ولكنه حضر العرس بحكم وجوده في المنطقة، وصداقته مع أفراد أسرتي، فضلاً عن قربه من عمي بالمصاهرة الشيخ عبدالجليل الذي كان يكن للشهيد الراحل كل الاحترام والتقدير، لكنني أنا شخصياً في المحصلة النهائية لم أكن قد عرفته وحتى أثناء العرس.

 

فرح وحدوي
حفل العرس أقيم في مدينة الراهدة؛ كونها المدينة المناسبة لإستقبال الضيوف،والقريبة من قريتي في جبال القبيطة عند النقطة الحدودية المشتركة مع الجنوب،وكذا قرى الضيوف من القرى الشمالية، الجنوبية، والمشتركة،وكلها قرى حدودية شطرية متداخلة،ومساكن لأناس شماليين،وأخرين جنوبيين ،لا يفصل المسكن الجنوبي عن المسكن الشمالي سوى ثلاثة أمتار أو أقل ،ومع ذلك تتوزع بعضها في جغرافية الجنوب،والأخرى في جغرافية الشمال،واحيانا تكون هذه المساكن في كل من الجنوب والشمال لأسرة واحدة،بل لأخوين شقيقين،أحدهما يسكن في سيادة الجنوب،والاخر في سيادة الشمال ...

اضافة الى وضع المساكن المتداخلة في هذه القرى،هناكجرب مشتركة (مساحات أرض مزروعة) يتقاسمها ورثة شماليون وجنوبيون،وهي لمورث واحد إما في الشمال،وإما في الجنوب،وهو الوضع الذي كما تذكرت استهوى الشيخ عبد العزيزالحبيشي وظل يسمعه، ويتابعه باهتمام،ويسأل عن كل تفاصيله من أبناء المنطقة مباشرة أثناء مجلس المقيل،الذي ضم ضيوف القرى المتداخلة من كلا الشطرين،وبحضور مسؤولي أمن الحدود والنقطة المشتركة والاستخبارات.

بعد أن سمع الشيخ عبد العزيز مجمل الإجابات من الحاضرين ،عن كافة استفساراته حول طبيعة العلاقة بين المواطنين من كلا الجانبين،وكيفية التنقل بين الشطرين،والقواعد الأمنية المنظمة للتنقلات...حينها تأكد للشيخ أن المواطنين في هذه المناطق من كلا الشطرين يعيشون مع بعضهم في حالة وئام، وعلاقات حميمية  تتجاوز العلاقات بين القيادتين السياسيتين في الشطرين،وهي الحالة التي كانت مثار إعجابه... خلاصة ما أريد الوصول إليه من هذا الاستعراض التوصيفي لهذه المنطقة هو القول بأن هذه المنطقة بكل تعقيداتها الاجتماعية والسياسية والأمنية، والتي اشتبكت فيها مقومات استراتيجية لدولتين، ونظامين سياسيين، وتداخلت فيها عناصر صراع لسيادتين... هي المنطقة التي عمل فيها الشهيد الراحل، والتي اسهمت في تشكيل أولى ملامحه السياسية، وولدت لديه ثقافة التوازنات، وأعطته روحا جديدة، وفهما جديدا، وثقافة جديدة على خلاف ما كان سائداً في مناطق العمل التنظيمي الأخرى، وهو الفهم الذي شكل مصدر إلهام للشهيد؛ وبفضله تمكن الشهيد من إحداث اختراقات كبيرة في هذه المنطقة الجبلية الممتدة على الشريط الحدودي، ومنطقة الخبوت المتداخلة إلى أعماق أعماق الجنوب التي كانت في حينها لازالت تحت سيادة النظام السياسي في الجنوب وسيطرة أجهزة أمن الدولة، ومراكز الشرطة الشعبية في مرحلة ما قبل الوحدة اليمنية.

أنفض العرس الخاص بي في مدينة الراهدة، وانتهى المقيل، وغادر الضيوف، وإلى هذه اللحظة وأنا لم أعرف الشهيد الراحل، ولم أتعرف عليه، ولم أتذكر أني شاهدته أثناء العرس.

 

يعرفني ولا أعرفه


في اليوم الثاني للعرس، كنت على موعد للغداء والمقيل في بيت أخي الأكبر في الراهدة، وقبل أن أتوجه إلى بيت أخي، دخلت الجامع لأداء صلاة الظهر، وأثناء خروجي شاهدت شخصاً خارج الجامع يحمل قسمات الأخوة في محافظة إب، وقلت في نفسي من يكون هذا الرجل؟!! وهل هو من ضيوفي الذين قدموا من إب؟! ولماذا إذا لم يغادر معهم في البارحة؟! ولماذا ظل باقياً في الراهدة؟! ثم أين نام هذا الرجل لاسيما وأن الراهدة ليس فيها فنادق للمبيت؟ وأثناء ما أنا مستغرق في هذه التساؤلات المكتومة تقدم إلي الرجل ليصافحني فرحبت به وأشعرته بأنني أعرفه تماماً، وعلى الفور دعوته إلى تناول الغداء في بيت أخي، فرد علي بالموافقة قائلاً: أقدم إلى البيت وسألحق بك، وكأنه كان يتحدث بمنطق العارف بالبيت وأهلها.. فقلت له: ليس هو البيت حق العرس في الأمس، ولكن هذا بيت أخي هناك... فرد علي: "عارف..عارف..أقدم سألحق بك".. فأيقنت حينها بأن هذا الرجل ليس من ضيوفي القادمين من إب إذاً، وليس هو من إبأصلاً.. ولا من أبناء القبيطة...فلعله إذاً يكون من مديرية خدير، ولعله أيضاً من أصدقاء أخي الأكبر.. هكذا أقنعت نفسي، ومن ثم توجهت في دوره إلى المزرعة في منطقة الزيلعي خارج الراهدة، ومن ثم عدت إلى بيت أخي، فوجدت الرجل فعلاً قد سبقني إلى البيت، ورأيته  يتجاذب أطراف الحديث مع أخواني وأولادهم.

 

إلى هذه اللحظة، يكون الشهيد الراحل أمين الرجوي قد عرفني بتفاصيلي، لكنني لم أكن أنا قد عرفته لا تفصيلا ولا جملة.
انتهينا من وجبة الغداء وانضمينا على الفور إلى جلسة المقيل التي حضرها عدد من المشائخ والتجار في مديرتي القبيطةوخدير، إضافة إلى مديري المديريتين ومدراء الأمن وحرس الحدود ومسؤولي النقطة الحدودية.

 

حديث في الأمن

في المقيل جلس إلى جواري مدير جهاز الأمن الوطني (الأمن السياسي سابقاً) وفي المقابل مني جلس الأستاذ الشهيد أمين الرجوي...وبينما نحن جلوس على هذه الهيئة همس في أذني مدير الأمن الوطني متسائلاً هل تعرف هذا الأستاذ وأشار بسبابته إلى الأستاذ الشهيد بشكل عفوي، فقلت له لا أعرفه..!فقال هذا مسؤول الإخوان في المنطقة...رديت عليه ايش من إخوان..! هل تقصد مسؤول المعاهد والمدارس هنا بالمنطقة..؟ رد علي قائلاً: هذا مسؤول أصحابكم هنا...وانت سميهم ما شئت...وأثناء ما كان مدير الأمن يهمس في أذني بهذا الحديث التفت أنا إلى الأستاذ أمين، وقد أدركت من ملامح وجهه أنهقد عرف بأنه هو المقصود شخصياً من هذه المحادثة، فقلت له على الفور أهلاً وسهلاً بالأستاذ أمين...كما الفندم وأشرت إلى مدير الأمن الذي بجانبي كان يشاورني الأن عنك ويقول لي أنك مسؤول الإخوان هنا، أو أنك مسؤول أصحابنا بحسب قوله، لكنني أوضحت له أنك مشرف وموجه في المعاهد فقط وأن المسؤول على أصحابنا في المنطقة هو عمي الشيخ عبد الجليل لأنه شيخ المنطقة وقائد حرس حدودها...ضحك الأستاذ أمين وقال فعلاً أنتم أهل المنطقة ومسؤوليها أما أنا فقط أعمل موجه تربوي هنا والأفندم(عبدالله) يعرف ذلك واضحاً... ومن ثم استغل الشهيد الفرصة للدخول مع الأفندم مدير الأمن الوطني في حديث مباشر، وبموجب ذلك طلب الأفندم من الأستاذ أمين الانتقال إلى الجلوس بجانبنا، بعد إن أفسحنا له حيزاً من المكان، وجلس بيني وبين الأفندم، ودار بينهما حديث مباشر حول مناطق الحدود، وحول الوسائل التي يمكن بها مساعدة بعض الأفراد القادمين من الجنوب كنتاج لأحداث يناير، وكان الأفندم يسأل الشهيد أمين عن عدد الطلاب الذين قدموا من الجنوب للدراسة في معهد الجند، وكان الأستاذ أمين يتحدث مع المسؤول الأمني عن كل ذلك بتريث وحذر شديد، بل كان يلتفت إلي في كل كلمة يقولها، مما دفعني لتشجيعه على الكلام مع الافندم بشكل واضح وقلت له أي (للشهيد) تحدث وبدون حذر ولا مخاوف وعلى مسؤوليتي...وقصدي من ذلك أنني من أبناء المنطقة وأعرف كيف اتعامل مع هؤلاء المسؤولين الأمنيين بحكم معرفتي وتجربتي بأن أي مدير للأمن الوطني يقدم إلى هذه المنطقة لا يمكنه أن يعمل بدون الرجوع إلينا نحن أبناء المنطقة...بمعنى أوضح بأنه جرى العرف في هذه المنطقة أن كل أبناء القرى الجنوبية الحدودية صغارهم وكبارهم يعملون في جهاز أمن الدولة والشرطة الشعبية في الجنوب... وكذا وأبناء القرى الشمالية صغارهم وكبارهم كلهم مجندين في بيوتهم ضمن حرس الحدود، ويتقاضون مرتبات وهم في بيوتهم...وحرس الحدود هذا يتبع تنظيمياً شعبة مكافحة الشيوعية والتخريب وهي شعبة من شعب الأمن الوطني...أي انهم يعملون ضمن قوام الأمن الوطني باسم حرس الحدود...وعمي بالمصاهرة الشيخ عبدالجليل هو قائد حرس حدود المنطقة أصلا... وبسبب هذا الوضع شجعت الشهيد على الحديث وقربت المسافات بينه وبين مسؤول الأمن... حينها شعر الأستاذ أمين بالاطمئنان من وجودي وشعرت أنا في حينها بأن الشهيد كان منجذباً إلي بكل عواطفه وهو انجذاب المحب لي، وأيضاً الفخور بي...لاسيما بعد أن رآني اتحدث مع مدير الأمن الوطني بدون تكلف وبمنطق الواثق بل احياناً بمنطق المعترض... وهو الامر الذي انعكس ايجابياً على معنوية الأستاذ أمين وشعرت أنه كان ينظر إلي باعتزاز، وتقدير، وفخر، بل ويتلهف إلى دوري أكثر على النحو الذي يفتح له المزيد من القنوات التي تساعده على النجاح في عمله في هذه المنطقة المتشابكة والمتداخلة أمنياً وسياسياً واجتماعياً.

انتهى المقيل بحدوث تعارف وانسجام كبير بين الأستاذ امين ومسؤول الأمن الوطني، وكان من نتائج هذا الانسجام أن مدير الأمن الوطني قام بإيصال الأستاذ أمين إلى فرزة تعز، وسلمه رزمتين من مجلة صوت الجنوب التي كانت تصدر عن المعارضة الجنوبية بالقاهرة ويرأس تحريرها المعارض الجنوبي عوض العرشاني، ويكتب فيها كبار قادة الرابطة وقادة جبهة التحرير مثل الجفري والعولقيوغيرهم، وكان الامن الوطني يقوم بتوزيعها إلى الجنوبيين في الحدود، لإيصالها إلى الداخل...من جهته تكفل الأخ أمين بتوزيع هذا العدد من المجلة على الطلاب الجنوبيين الدارسين في معهد الجند وعلى بعض طلابه المنشرين على الشريط الحدودي، ومن تلك اللحظة كان يتسلم الأستاذ أمين ثلاثين نسخة من كل عدد شهرياً وكان يقرأها كاملة، ويطلع فيها على كل الأخبار، والأسرار، والتفاعلات،والإعتقالات التي تحدث في الجنوب،فضلاً عن قرأته للمزيد من التحليلات، وأخبار الانقسامات والصراعات التي تحدث داخل هياكل الحزب الاشتراكي الحاكم، فضلاً عن قراته للتقرير الأمني (خفايا وأسرار) الذي يعده الأمن الوطني وتنشره المجلة وهو ما ولد لدى الشهيد ثقافة سياسية وأمنية ومعلوماتية لم يحصل عليها أحد من أمثاله من العاملين في الحقل التربوي والتنظيمي والقادة الميدانيين في  المناطق الأخرى.

 

ملامح القائد المتحفز

في هذا اللقاء الذي ضم الشهيد والمسؤولين في هذا المقيل خرجت باستخلاص مفاده: بأنني فعلاً أمام شخص قيادي مجتمعي، ومتحفز، ويلفت الأنظار إليه بمجرد دخوله المكان...كما أن لحديثه جاذبية من نوع ما إلى الحد الذي يجعل الجميع في حالة انصات لكل ما يتفوه به...كما وجدت أن الرجل أيضاً يمتلك ذهنية متقدة، وعمق في التفكير، إضافة إلى الهدوء والاتزان، والامتلاء، مع قدر كبير من اللباقة التي تهيئه للتحدث والتعامل مع كافة أطياف الناس...كما لمست أن الرجل أثناء حديثه كان لا يبدي آراء واضحة، بل تتسم وجهات نظره بالدبلوماسية الشديدة والعمومية بحيث لا يتيح مجال للآخرين تبني رأي  مضاد له...بمعنى أوضح وجدت نفسي أمام شخص قائد حقيقي دون أن يكون له وضعاً قيادياً على الأرض، أو منصباً سياسياً، أو موقعاً وضيفياً، لأنه ليس كل من يمتلك سلطة أو يشغل أعلى المناصب يتمتع بروح القيادة، بل القائد الحقيقي هو الذي يحمل روح القيادة دون أن يرتكز إلى المواقع أو الرتب، بل يرتكز إلى القدرة على الفعل والأداء وإطلاق المبادرات،وتشكيل الرأي العام وهذا الوضع هو الذي كان عليه الشهيد الراحل.

 

لقاء مع الفن

في اليوم الثالث من العرس دعيت إلى حضور حفلة، أقيمت على شرف عرسي نظمها مجموعة من الأصدقاء والمدرسين في بيت أحد الأصدقاء، وكان معظم الضيوف في هذه الحفلة من الإخوة اليساريين، والقوميين، والفنانين، وبعض المثقفين، وآخرين من المسؤولين والمشايخ الذين يمثلون بمجملهم وجهة نظر مغايره للإسلاميين، وقد دعي إلى هذه الحفلة فريق غنائي بقيادة أحد الفنانين الذي قدم من لحج...وهذا الفنان كما قال عن نفسه هو مسؤول التدريب الموسيقي في معهد القمندان الفني بلحج، وهو متخصص بالنمط الغنائيالمسمى ب (الدان)... أي أن هذه الحفلة ليست كسابقتها الأولى، التي حضرها الضيوف ممن يحملون الوجهة الدعوية، والتي اقتصرت على الأناشيد والزفة الإسلامية وقدر من المواعظ والأدعية.

تناولنا وجبة الغداء في هذه العزومة، ومن ثم انضمينا إلى المقيل، وحضرت الفرقة الغنائية، وضرب العود، وقرعت الدفوف، وعزفت المعازف، ونهض فريق الرقص يؤدي رقصاته على إيقاع الدان الرائع...كل هذا يحدث وأنا مستمتع بهذا الأداء الرائع والجميل، لاسيما وأن الحفلة كانت تخلو من بعض المتشنجين الذين عادة ما يستدعون الصراع والتوترات في هذه المناسبات بحجة تحريم الغناء أو الرقص.

في تلك اللحظات السعيدة التي كنت أقضيها مع ضيوفي الذين أراهم يصفقون ويرقصون مع كل نبرة صوت للفنان، ومع كل نغمة للعود، وكل قرع من قرعات الدفوف...إذا بالأخ الشهيد أمين الرجوي يقبل إلى هذه الحفلة الفنية وهو محاط بمجموعة من الشباب، مطلقاً علينا تحيته المعتادة بالصوت المرتفع (السلام عليكم) مردفاً بعبارة أخرى بصوت جهوري : (السلام تحية)... فرد عليه الجميع السلام ثم جلس في المقيل...

بمجرد أن دخل الأستاذ أمين ورفاقه شعرت بالقلق والتوجس، وقلت في نفسي...يا الله تخارجنا...وتكملها على خير...ومصدر قلقي هو أن يحدث اعتراض، أو نصيحة، أو مشاركة مضادة مناهضة للجلسة الفنية، الامر الذي من شأنه تعكير صفو هذا اللقاء وإيقاعي في حرج، لاسيما والحفلة ليست حفلتي وأنا أيضاً لم أكن أعرف توجهات الشهيد إزاء هذا الوضع الفني أصلاً...بينما أنا أحدث نفسي بهذه المخاوف إزداد قلقي أكثر عندما شاهدت الشهيد ورفاقه الشباب المحيطون به يتهامسون فيما بينهم ويشيرون بأصابعهم إلى حيث يرقص الشباب، فقلت لا شك أنهم بالتأكيد يتشاورون بتوجيه نصيحة لنا بالإقلاع عن هذا الفعل، أو انهم يتشاورون للانسحاب من هذا الوضع كلياً، أو يقوم واحد منهم بإلقاء خطبة في هذا المكان كما يفعل بعضهم في هذه المناسبات غالباً...وبينما أنا ماسك يدي على قلبي مما سينتج عن هذه المشاورات...كانت المشاورات فيما بينهم فقد أسفرت على ضرورة المشاركة في الرقص، وعلى الفور انضم شابان من شباب الأستاذ أمين المحيطين به إلى المرقص، وهما يؤديان حركات الرقص اللحجي على إيقاع الدان بخفة، ومرونة، وسرعة حركة،وسط هتافات الحاضرين وتصفيقاتهم الحارة في أجمل تجليات المشهد الفني الرائع...الأمر الذي دفعني لإطلاق الإشارة إلى الأستاذ أمين بسرعة مغادرة مكانه الذي كان يبعد عني قليلاً والانضمام إلى جواري في رأس المجلس، وهي الإشارة التي استقبلها الرجل بسعادة وسرور وقام على الفور يحمل مقتضياته من قات وماء ومن ثم النهوض إلى جواري والبسمة ترتسم على محياه.

إنها صورة فنية مكتملة ورائعة...تمثلت في مشهد أول: لفنان يتابع العزف على أوتار عوده الذي كان يضمه إلى صدره بحميمية بالغة ويحني له رأسه لينصت إلى ايقاعاته بأذنيه بكل تركيز وعناية، متنقلاً بإيقاعاته وألحانه بين أكثر من حقل إيقاعي، ومقام غنائي، وبحر موسيقي لحجي أصيل...إضافة إلى هذا المشهد...هناك مشهد ثان: يتمثل بإيقاع فني راقص وتناغم حيث تسارع اللحن مع رقصة الدان بشكل متناغم بديع، إلى الحد الذي كنت أسمع من حلبة الرقص صوت أنفاس الشباب وكأنه لسباق فروسية محموم، بل وكأن حركة الراقصين على هيئة جموح الخيل الذي يكاد يشف على مفاتنه ويرخي بقوامه على الحضور بكل سلاسة...فعلاً إنه الرقص التعبيري البديع الذي يعبر عن الروح باستخدام لغة الجسد بأسلوب متناغم مع الإيقاع الفنيالعام...(الآلة، واللحن معاً).

 

*الجزء الاول ننشرة بالتزامن مع مركز إعلام مقاومة إب

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر